الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
الجزء الرابع قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريباً منها، غزا نجداً يريد غطفان وهي: غزوة ذي أمر. (ج/ص: 4/ 3) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عثمان بن عفان. قال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفراً كله أو قريباً من ذلك، ثم رجع ولم يلق كيداً. وقال الواقدي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من غطفان من بني ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث. واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فغاب أحد عشر يوماً وكان معه أربعمائة وخمسون رجلاً، وهربت منه الأعراب في رؤوس الجبال، حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف، وذلك بمرأى من المشركين. واشتغل المشركون في شؤونهم، فبعث المشركون رجلاً شجاعاً منهم يقال له غورث بن الحارث، أو دعثور بن الحارث فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد، فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم ؟ قال: الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعاً أبداً، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك مالك ؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمداً رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعاً، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام. (ج/ص: 4/ 4) قال: ونزل في ذلك قوله تعالى: قال البيهقي: وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان. قلت: إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعاً، لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضاً، لم يسلم بل استمر على دينه، ولم يكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتله، والله أعلم. قال ابن إسحاق: فأقام بالمدينة ربيعاً الأول كله، أو إلا قليلاً منه، ثم غدا يريد قريشاً. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران، وهو معدن بالحجاز من ناحية الفرع. وقال الواقدي: إنما كانت غيبته عليه السلام عن المدينة عشرة أيام، فالله أعلم. وقد زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال، سنة ثنتين من الهجرة، فالله أعلم، وهم المرادون بقوله تعالى: قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني قينقاع. قال وكان من حديثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوقهم ثم قال: يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. فقالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس. قال ابن إسحاق: فحدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد، وحاربوا فيما بين بدر وأحد. قال ابن هشام: فذكر عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه. قال: فأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن هشام: وكان يقال لها ذات الفضول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرسلني)) وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: ((ويحك أرسلني)). قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلثمائة دراع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله أمرؤ أخشى الدوائر. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم لك)). قال ابن هشام: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاصرته إياهم أبا لبابة - بشير بن عبد المنذر - وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة. قال ابن إسحاق: وحدثني أبي، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. قال: وفيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات من المائدة: إلى عير قريش صحبة أبي سفيان أيضاً، وقيل صحبة صفوان. قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: وكانت بعد وقعة بدر بستة أشهر. (ج/ص: 4/ 6) قال ابن إسحاق: وكان من حديثها أن قريشاً خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان، ومعه فضة كثيرة، وهي عظم تجارتهم واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يعني - العجلي - حليف بني سهم ليدلهم على تلك الطريق. قال ابن إسحاق: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ماء يقال له القردة، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في ذلك حسان بن ثابت: دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الأوارك بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقاً وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك قال ابن هشام: وهذه القصيدة في أبيات لحسان، وقد أجابه فيها أبو سفيان بن الحارث. وقال الواقدي: كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية مستهل جمادى الأولى على رأس ثمانية وعشرين شهراً من الهجرة، وكان رئيس هذه العير صفوان بن أمية، وكان سبب بعثه زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة ومعه خبر هذه العير، وهو على دين قومه. واجتمع بكنانة بن أبي الحقيق في بني النضير، ومعهم سليط بن النعمان من أسلم، فشربوا وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر، فتحدث بقضية العير نعيم بن مسعود، وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الأموال. فخرج سليط من ساعته فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث من وقته زيد بن حارثة فلقوهم، فأخذوا الأموال، وأعجزهم الرجال، وإنما أسروا رجلاً أو رجلين وقدموا بالعير، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ خمسها عشرين ألفاً، وقسم أربعة أخماسها على السرية وكان فيمن أسر الدليل فرات بن حيان فأسلم رضي الله عنه. قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن في ربيع من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة منها. وكان من بني طيء، ثم أحد بني نبهان، ولكن أمه من بني النضير، هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بني النضير، وذكره البخاري والبيهقي بعد قصة بني النضير، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي: فإن بني النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد، وفي محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله. (ج/ص: 4/ 7) قال البخاري في صحيحه، باب قتل كعب بن الأشرف: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله)) فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً، قال: قل فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً، والله لتملنه. قال: أنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا. قال: نعم، ارهنوني. قلت: أي شيء تريد ؟ قال: ارهنوني نساءكم. فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السلاح، فواعده أن يأتيه ليلاً، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة ؟ وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنه بليل لأجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإني مائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، وقال مرة: ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحاً وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً أي أطيب. وقال غير عمر، وقال: عندي أعطر نساء العرب، وأجمل العرب. قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك ؟ قال: نعم، فشمه، ثم أشَمَّ أصحابه، ثم قال: أتأذن لي ؟ قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وقال محمد ابن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف، وكان رجلاً من طيء، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر، حين قدم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته. وجعل يحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار، ويندب من قتل من المشركين يوم بدر، فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها: طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضي الله عنه ومن غيره، ثم عاد إلى المدينة، فجعل يشبب بنساء المسلمين، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. (ج/ص: 4/ 8) وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف أحد بني النضير أو فيهم، قد أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء وركب إلى قريش فاستغواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال. فقال له كعب بن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلاً. قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم للمدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين. قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة -: ((من لابن الأشرف)) فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: ((فافعل إن قدرت على ذلك)). قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل، ولا يشرب، إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: ((لم تركت الطعام والشراب ؟)) فقال: يا رسول الله قلت لك قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا؟ قال: ((إنما عليك الجهد)) قال: يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول. قال: ((فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك)). قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، أبو عبس بن جبر أخو بني حارثة. قال: فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، فتناشدا شعراً - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا. فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر يصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً، ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤوا بها. (ج/ص: 4/ 9) فقال: إن في الحلقة لوفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فاخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: ((انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم)). ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائماً ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو دعي الفتى لطعنة أجاب. فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم. فخرجوا فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر قط. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله ! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة، لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار. قال: فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله وقد أُصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه، أصابه بعض سيوفنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتأنا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله. وتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه. قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك: فغودر منهم كعب صريعاً * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلاً * إلى كعب أخا كعب يسير فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير ستأتي. (ج/ص: 4/ 10) قلت: كان قتل كعب بن الأشرف على يدي الأوس بعد وقعة بدر، ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع ابن أبي الحقيق بعد وقعة أحد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة. وقد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت: لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحاً كأسد في عرين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفاً ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف قال محمد بن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه)) فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الأوسي على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم - فقتله. وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه، ولم يسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة. وقال: والله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم، والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها. قال: فوالله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة. قال ابن إسحاق: حدثني بهذا الحديث مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها، وقال في ذلك محيصة: يلوم ابن أم لو أمرتُ بقتله * لطبقت ذفراه بأبيض قارب حسام كلون الملح أخلصُ صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب وما سرني أني قتلتك طائعاً * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب وحكى ابن هشام عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو المدني أن هذه القصة كانت بعد مقتل بني قريظة، فإن المقتول كان كعب بن يهوذا، فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة، قال له أخوه حويصة ما قال، فرد عليه محيصة بما تقدم، فأسلم حويصة يومئذ، فالله أعلم. تنبيه: ذكر البيهقي، والبخاري قبله خبر بني النضير قبل وقعة أحد، والصواب إيرادها بعد ذلك كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازي، وبرهانه أن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير. وثبت في الصحيح أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيداً، فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالاً، وإنما حرمت بعد ذلك، فتبين ما قلناه من أن قصة بني النضير بعد وقعة أحد، والله أعلم. تنبيه آخر: خبر يهود بني قينقاع بعد وقعة بدر كما تقدم، وكذلك قتل كعب بن الأشرف اليهودي على يدي الأوس، وخبر بني النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي، وكذلك مقتل أبي رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدي الخزرج، وخبر يهود بني قريظة بعد يوم الأحزاب، وقصة الخندق كما سيأتي. (ج/ص: 4/ 11) فائدة ذكرها المؤلف في تسمية أحد، قال: سمي أحد أحداً لتوحده من بين تلك الجبال. وفي الصحيح: ((أحد جبل يحبنا ونحبه)). قيل: معناه أهله. وقيل: لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره، كما يفعل المحب. وقيل: على ظاهره كقوله: وفي الحديث عن أبي عبس بن جبر: ((أحد يحبنا ونحبه وهو على باب الجنة، وعير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار)). قال السهيلي: مقوياً لهذا الحديث، وقد ثبت أنه عليه السلام قال: ((المرء مع من أحب)) وهذا من غريب صنع السهيلي، فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس، ولا يسمى الجبل امرءاً. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث، قاله الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، ومالك. قال ابن إسحاق: للنصف من شوال. وقال قتادة: يوم السبت الحادي عشر منه. قال مالك: وكانت الوقعة في أول النهار، وهي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى: ولنذكر ههنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد بن إسحاق وغيره من علماء هذا الشأن رح: وكان من حديث أُحُد كما حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم، من علمائنا كلهم، قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت. قالوا أو من قال منهم: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلَّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له تلك العير من قريش تجارة. فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأراً، ففعلوا. (ج/ص: 4/ 12) قال ابن إسحاق: ففيهم كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله تعالى: قالوا: فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة. وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد منَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى. فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك واخرج معنا. فقال: إن محمداً قد منَّ علي، فلا أريد أن أظاهر عليه. قال: بلى فأعنا بنفسك فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بني كنانة ويقول: أيا بني عبد مناة الرزام * أنتم حماة وأبوكم حام لا يعدوني نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام قال: وخرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم، ويقول: يا مال مال الحسب المقدم * أنشد ذا القربى وذا التذمم من كان ذا رحم ومن لم يرحم * الحلف وسط البلد المحرم عند حطيم الكعبة المعظم * قال: ودعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. قال: فخرجت قريش بحدها، وحديدها، وجدها، وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة، وخرج عكرمة بن أبي جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة. وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج وهي أم ابنه عبد الله بن عمرو، وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته. (ج/ص: 4/ 13) قال: وكان وحشي كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويهاً أبا دسمة اشف واشتفِ. يعني تحرضه على قتل حمزة بن عبد المطلب. قال: فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال لهم: ((قد رأيت والله خيراً رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة)). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم جميعاً عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفاً فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضاً بقراً والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر)). وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر. قال ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه المشركون، يوم أحد كان رأيه أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدراً: نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم فالرأي رأيك. فقال لهم: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. قال: وكان قال لهم يومئذ قبل أن يلبس الأداة: ((إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشاً وأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقراً يذبح فبقر والله خير)). رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به. (ج/ص: 4/ 14) وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس مرفوعاً قال: ((رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشاً وكأن ضبة سيفي انكسرت، فأولت أني أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي)) فقتل حمزة، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة وكان صاحب اللواء. وقال موسى بن عقبة رح: ورجعت قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبلي أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدراً قد ندموا على ما فاتهم من السابقة، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما إبلى إخوانهم يوم بدر. فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد، فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدراً بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم: ((رأيت البارحة في منامي بقراً تذبح والله خير، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ضبته، أو قال: به فلول فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشاً)) فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه قالوا: يا رسول الله ماذا أولت رؤياك ؟ قال: ((أولت البقر الذي رأيت بقراً فينا، وفي القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي)). ويقول رجال: كان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ. وقال: ((أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الأطام، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم)). ورموا من فوق البيوت، وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن، فقال الذين لم يشهدوا بدراً: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير. وقال رجل من الأنصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا؟ وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم تمنع الحرب بروع؟ وقال رجال قولاً صدقوا به، ومضوا عليه منهم: حمزة بن عبد المطلب قال: والذي أنزل عليك الكتاب لنجادلنهم. وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة - وهو أحد بني سالم -: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بم ؟)). قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقت)) واستشهد يومئذ. (ج/ص: 4/ 15) وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، وعظ الناس وذكَّرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا بلأمته فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج. فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة، وهو أعلم بالله وما يريد، ويأتيه الوحي من السماء. فقالوا: يا رسول الله أمكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فسلكوا على البدائع وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلثمائة، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة. قال البيهقي رح: هذا هو المشهور عند أهل المغازي أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل. قال: والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل، كذلك رواه يعقوب بن سفيان عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. وقيل عنه بهذا الإسناد سبعمائة، فالله أعلم. قال موسى بن عقبة: وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، وكان معهم مائة فرس، وكان لواؤه مع عثمان بن طلحة، قال: ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة، ثم ذكر الوقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. وقال محمد ابن إسحاق: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن لا يخرج إليهم. فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو، فصلى عليه، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد، فقال: ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل)) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه. (ج/ص: 4/ 16) قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله فقال: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، عند ما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم. قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: يعني: إنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه، وهم الذين أنزل الله فيهم: وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم، وقال آخرون: لا نقاتلهم، كما ثبت وبين في الصحيح. وذكر الزهري: أن الأنصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: ((لا حاجة لنا فيهم)). وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بني سلمة وبني حارثة لما رجع عبد الله بن أبي وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: قال جابر بن عبد الله: ما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وليهما} كما ثبت في الصحيحين عنه. قال ابن إسحاق: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب السيف: ((شم سيفك - أي: أغمده - فإني أرى السيوف ستسل اليوم)). ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي: من قريب - من طريق لا يمر بنا عليهم)). فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة، وبين أموالهم حتى سلك به في مال لمربع بن قيظي، وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي. قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر)) (ج/ص: 4/ 17) وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وفي الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: ((لا يقاتلن أحد حتى أمره بالقتال)). وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة يومئذ عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً فقال: ((انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك)). وسيأتي شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى. قال ابن إسحاق: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، يعني لبس درعاً فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار. قلت: وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغلمان يوم أحد فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم، منهم: عبد الله بن عمر، كما ثبت في الصحيحين قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس بن قيظي. ذكره ابن قتيبة، وأورده السهيلي وهو الذي يقول فيه الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين ومنهم: ابن سعيد بن خيثمة، ذكره السهيلي أيضاً، وأجازهم كلهم يوم الخندق. وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعاً رام فأجازه، فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعاً فأجازه. قال ابن إسحاق رح: وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل بن هشام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأخذ هذا السيف بحقه)) فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فأعطاه إياه. هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعاً. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد وعفان قالا: حدثنا حماد هو ابن سلمة، أخبرنا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أحد فقال: ((من يأخذ هذا السيف ؟)) فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: ((من يأخذه بحقه)) فأحجم القوم فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين. ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به. (ج/ص: 4/ 18) قال ابن إسحاق: وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل. قال: فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، ثم جعل يتبختر بين الصفين. قال: فحدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم - مولى عمر بن الخطاب - عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن)) قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه، فنكفيكموه فهموا به، وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان. قال: فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضن على القتال، فقالت هند فيما تقول: ويهاً بني عبد الدار * ويها حماة الأديار ضرباً بكل بتار وتقول أيضاً: إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة، وكان قد خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاماً من الأوس، وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر. وكان يعد قريشاً أن لو قد لقي قومه لم يتخلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الأحابيش، وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس: أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالاً شديداً، ثم أرضخهم بالحجارة. قال ابن إسحاق: فأقبل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس. قال ابن هشام: وحدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول (ج/ص: 4/ 19) وقال الأموي: حدثني أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه وهو يقاتل به فقال: ((لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول)) قال: لا، فأعطاه سيفاً فجعل يرتجز ويقول: أنا الذي عاهدني خليلي * أن لا أقوم الدهر في الكيول وهذا حديث يروى عن شعبة، ورواه إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق، عن هند بنت خالد أو غيره، يرفعه الكيول يعني مؤخر الصفوف، سمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الخرف إلا في هذا الحديث. قال ابن هشام: فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحاً إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فعضيت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. فقلت: الله ورسوله أعلم. وقد رواه البيهقي في (الدلائل) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام بذلك. قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنساناً يحمس الناس حمساً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضه طلبه منه عمر، فأعرض عنه، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه، فوجدا في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه، فأعطى السيف حقه. قال: فزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين، قمت فتجاورت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة، يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم. قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيأة. قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال: كيف ترى يا كعب أنا أبو دجانة. (ج/ص: 4/ 20) قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، وكذلك قتل عثمان بن أبي طلحة وهو حامل اللواء، وهو يقول: إن على أهل اللواء حقاً * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا فحمل عليه حمزة فقتله، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، وكان يكنى بأبي نيار، فقال حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكانت ختَّانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله فقال وحشي - غلام جبير بن مطعم -: والله إني لأنظر لحمزة يهد الناس بسيفه، ما يليق شيئاً يمر به مثل الجمل الأورق، إذ قد تقدمني إليه سباع فقال حمزة: هلم يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغلب فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار أحد بني نوفل بن عبد مناف، في زمان معاوية، فأدربنا مع الناس، فلما مررنا بحمص، وكان وحشي مولى جبير قد سكنها، وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدي: هل لك في أن نأتي وحشياً فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله ؟ قال: قلت له: إن شئت، فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحياً تجدا رجلاً عربياً، وتجدا عنده بعض ما تريدان، وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه. قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه، فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: ابن لعدي بن الخيار أنت ؟ قال: نعم. قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك بعرضيك، فلمعت لي قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت علي فعرفتهما. قال: فجلسنا إليه، فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته؟ (ج/ص: 4/ 21) فقال: أما إني سأحدثكما كما حدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألني عن ذلك: كنت غلاماً لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد، قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلَّ ما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة، وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة، أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة قال: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة إنما قتلته لأعتق. فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، هربت إلى الطائف فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعَّيت علي المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله لا يقتل أحداً من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق. قال: فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يرعه إلا بي قائماً على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رآني قال لي: ((أوحشي أنت ؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة)) قال فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: ((ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك)) قال: فكنت أتنكب برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عز وجل. فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس ورأيت مسيلمة قائماً وبيده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه. وشد عليه الأنصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت شر الناس. قلت: الأنصاري هو أبو دجانة سماك بن حرشة، كما سيأتي في مقتل أهل اليمامة. وقال الواقدي في الردة: هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني. وقال سيف بن عمرو: هو عدي بن سهل، وهو القائل: ألم تر أني ووحشيهم * قتلت مسيلمة المغتبن ويسألني الناس عن قتله * فقلت ضربت وهذا طعن والمشهور: أن وحشياً هو الذي بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال: سمعت صارخاً يوم اليمامة يقول قتله العبد الأسود. (ج/ص: 4/ 22) وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبد الله بن عدي بن الخيار فذكر القصة كما تقدم. وذكر أن عبيد الله بن عدي كان معتجراً عمامة لا يرى منه وحشي إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم. وهذه قيافة عظيمة كما عرف مجزز المدلجي أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما. وقال في سباقته: فلما أن صفَّ الناس للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال له: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه. قال: فكان ذلك آخر العهد به، إلى أن قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرج إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة. قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه، حتى خرجت من كتفيه. قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته. قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت وا أمير المؤمناه قتله العبد الأسود. قال ابن هشام: فبلغني أن وحشياً لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت بأن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. قلت: وتوفي وحشي بن حرب أبو دسمة، ويقال: أبو حرب بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة. قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمداً. قلت: وذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن سعيد بن المسيب أن الذي قتل مصعباً هو أبي بن خلف، فالله أعلم. قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب. وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولاً مع علي بن أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من علي بن أبي طالب، فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء علي بن أبي طالب. قال ابن إسحاق: وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين. قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدّم الراية، فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم فناداه أبو سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه. (ج/ص: 4/ 23) فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وقد فعل ذلك علي رضي الله عنه يوم صفين مع بسر ابن أبي أرطأة، لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه. كذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه علي في بعض أيام صفين، أبدى عن عورته، فرجع علي أيضاً. ففي ذلك يقول الحارث بن النضر: أفي كلِّ يومٍ فارس غير منتهِ * وعورته وسط العجاجة باديه يكف لها عنه عليٌّ سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه وذكر يونس عن ابن إسحاق: أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين يومئذ، دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس فبرز إليه الزبير بن العوام، فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل نبي حوارياً وحواريّ الزبير)). وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه، لما رأيت من إحجام الناس عنه. وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبي طلحة سعد بن أبي وقاص، وقاتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقتل نافع بن أبي طلحة وأخاه الجلاس كلاهما يشعره سهماً، فيأتي أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلاً حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح، فنذرت أن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركاً أبداً، ولا يمسه، ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي. قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبي عامر، واسمه عمرو، ويقال: عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لأبي عامر في الجاهلية: الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، لما خلف الحق وأهله، وهرب من المدينة هرباً من الإسلام ومخالفة للرسول عليه السلام. وحنظلة الذي يعرف بحنطلة الغسيل - لأنه غسلته الملائكة كما سيأتي - هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شدَّاد بن الأوس، وهو الذي يقال له ابن شعوب، فضربه شدَّاد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما شأنه)) فسُئلت صاحبته. قال الواقدي: هي جميلة بنت أبي ابن سلول، وكانت عروساً عليه تلك الليلة. فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك غسلته الملائكة)). (ج/ص: 4/ 24) وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، وقال: ذنبان أصبتهما ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنتَ وصولاً للرحم، براً بالوالد. قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك: لأحمينَّ صاحبي ونفسي * بطعنةٍ مثل شعاع الشمس وقال ابن شعوب: ولولا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي * لألفيتَ يوم النعفِ غيرَ مجيب ولولا مكري المهر بالنعف فرفرت * عليه ضباع أو ضراء كليب وقال أبو سفيان: ولو شئتُ نجتّني كُمَيتَ طمرة * ولم أحملِ النعماء لابن شعوب وما زال مهري مزجَرَ الكلب منهم * لدن غدوةٍ حتى دنت لغروب أقاتلهم وأدعي يا لغالب * وأدفعهم عني بركن صليب فبكِّي ولا ترعي مقالة عاذل * ولا تسأمي من عَبرة ونحيب أباكِ وإخواناً له قد تتابعوا * وحقاً لهم من عَبرة بنصيب وسَلي الذي قد كان في النفس أنني * قتلت من النجار كل نجيب ومن هاشم قرماً كريماً ومصعباً * وكان لدى الهيجاء غير هيوب فلو أنني لم أشفِ نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب فأبوا وقد أوْدى الجلابيب منهمُ * بهم خدبٌ من مُغبطٍ وكئيب أصابهمُ من لم يكن لدِمائهم * كفاء ولا في خطةٍ بضريب فأجابه حسان بن ثابت: ذكرت القروم الصِّيدَ من آل هاشم * ولست لزورٍ قلته بمصيبِ أتعجبُ أن أقصدت حمزةَ منهم * نجيباً وقد سمَّيته بنجيب ألم يقتلوا عَمراً وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب غداة دعا العاصي علياً فراعَه * بضربةِ عَضْبٍ بَلّهُ بخضيب (ج/ص: 4/ 25)
|